بسم الله الرحمن الرحيم
~~~~~~
قصة قصيرة /
دعاء الوالدين …
بقلم / أحمد عبد اللطيف النجار
أديب ومفكر مصرى
……………
حسن الظن بالله من أفضل أعمال العبد المؤمن ، وهذا ما يسميه بعض العارفين بجميل الظن بالله .
وحسن الظن به سبحانه يعني أن يكون رجاؤنا فيه متصلاً لا ينقطع أبداً وأن نقدم لأنفسنا من الأعمال الصالحات ما يطمعنا في عفوه ورحمته وجوائزه في الدنيا والآخرة ، فنسبق جميل الرجاء بجميل الطاعة ، ويستقر اليقين في قلوبنا بأن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين ، ونشعر باطمئنان القلب لرعاية الله لنا .
قال الشاعر :
وأني لأرجو الله حتى كأنني أري ...... بجميل الظن ما الله صانع
واختبارات الحياة كثيرة ، ويُبتلي المؤمن بالشدة والمحنة علي قدر إيمانه ، فالله رءوف رحيم لا يحّمل نفساً فوق طاقتها ، والسعيد حقاً من يصمد أمام ابتلاءات الحياة الدنيا ويكون الابتلاء بالنسبة له امتحان سهل يعرف كل خباياه ، أو كالنار التي تجلي المعدن النفيس من الصدأ ، فيظهر بريقه ولمعانه وأصله الطيب !
صاحبي ناصر ، شاب طاهر بريء القلب ، نشأ بين أبوين متحابين وأشقاء وشقيقات كان هو أصغرهم ، يقول ناصر :
وعيت الحياة فوجدت أبي مشلولاً شلل كلي ، لا يفارق فراشه وأمي
ترعاه وتحنو عليه ، ولا يصرفها اهتمامه به عن رعايتنا ، وكان باسماً دائماً ، لطيفاً مع الجميع ونبعاً لا ينضب للحكمة .
مرت الأيام سريعاً وشق إخوتي طريقهم في الحياة وتخرجوا وعملوا وتزوجوا ، وبقيت أنا مع أبي وأمي وحدنا ، يزورنا إخوتي من حين لآخر ، وكان من عادتي حين أصحو من نومي وأتناول إفطاري واستعد للخروج أن أطرق غرفة نوم أبي لأحييه تحية الصباح وأتلقى قبلة فوق جبيني وأسمع دعاؤه الطيب لي بالخير والفلاح ، ثم اخرج إلي عملي مطمئناً .
ظللت علي تلك الحال طوال سنوات صباي وشبابي وحتى آخر سنوات دراستي الجامعية ، حتى جاء يوم وطرقت باب غرفة أبي ذات صباح وجاءني صوته ضعيفاً ، فدخلت وفوجئت بمشهد لم ينمح من ذاكرتي بعدها أبداً ، فقد رأيت أمي منكفئة علي أبي الراقد في سريره لا يبدو منه سوى رأسه من فوق كتفيها والدموع متحجرة في عينيه ، وكل حزن الدنيا محفور علي وجهه ... لم أفهم شيئاً في البداية وتجمدت في موقفي حتى ناداني أبي لأرفع أمي عنه وأعيدها إلي فراشها القريب ، وفهمت في هذه اللحظة فقط ماذا حدث ، لقد نهضت أمي من نومها وتبادلت مع أبي أحاديث الصباح كالمعتاد ، ثم اقتربت منه لترفعه وتجلسه علي الفراش ، وتضع الوسائد خلف ظهره كما تفعل كل يوم ، واحتضنته وهمت بأن ترقعه ، فإذا بالسر الإلهي يغادر جسدها الطاهر الرقيق في تلك اللحظة بالذات وتسقط عليه ويعجز هو عن فعل شيء ، ويظل ساكناً في موضعه وهي علي صدره يبكيها في صمت ، يسمع بحركاتي في الصالة ويشفق من أن يناديني فأرى أمي علي تلك الحالة ... إنه ينتظر معجزة من السماء تعينه علي أمره ، وحين طرقت الباب علي أبي كان قد مضى علي رحيل أمي عن الحياة
نصف ساعة جفت خلالها دموعه وأصبح وجهه تمثالاً مجسداً للحزن النبيل ، وخلا البيت من أمي .. خلا البيت من أعز الناس في الوجود ، وبعد أيام الحداد عاد أشقائي وشقيقاتي إلي بيوتهم ووجدت نفسي وحيداً مع أبي ، والحمد لله أعانني الله علي خدمته والقيام بكل شئونه .
مرت الأيام والشهور ودخلت امتحان البكالوريوس ، فإذا بي أنجح بتقدير جيد جداً مع أنني لم أبذل أكثر من مجهودي العادي كل سنة ، ولم أجد تفسيراً لذلك سوى أنه توفيق من الله لرضاء أبي عني ومن قبله أمي الراحلة يرحمها الله .
واصلت دراستي بعد مشورة أبي ، وحصلت علي الماجستير في تخصصي الدقيق ، وتوالت جوائز السماء عليّ فعملت بأحد المكاتب الاستشارية ونلت ثقة صاحب المكتب بأسلوبي المتفاني في العمل ، وذات يوم استدعاني صاحب المكتب الاستشاري و؟أبلغني أنه قرر تعييني بالمشروع العلمي بمرتب مغري ، وأثناء عملي تعرفت على إحدى الزميلات وحدث الإعجاب المتبادل بيننا ، وبدأت أفكر فيها واستشرت أبي ، فأيدني في تفكيري وشجعني علي مفاتحتها في الزواج ، وتجرأت ذات يوم وفاتحتها فرحبت بي وتمت الخطبة ، وكانت خطبة من نوع خاص ، فقد ذهبت أنا وإخوتي إلي بيتها وقرأنا الفاتحة مع خالها وأقاربها إلي جوار فراش أمها المريضة ، ثم اصطحبت الجميع وتوجهنا إلي أبي وقرأنا الفاتحة مرة أخرى إلي جوار فراشه ، وكانت ليلة سعيدة في حياتنا ، وتفاهمت مع خطيبتي سميرة علي أن كلا منا لا يستطيع التخلي عن مسئوليته تجاه أعز الناس إليه ، لذلك فأنى بيتنا لابد أن يجمع بيننا جميعاً .
تزوجنا بالفعل في شقة أبي ومعنا والدة عروستي ، تم الزواج بمباركة الجميع وفدّم لي إخوتي هداياهم نقوداً قبل الزواج
لأستعين بها علي أمري ، وسبحان الله يا أخي لم أشعر بوجود أم زوجتي المريضة معنا بعد زواجنا ، فلقد كانت كالنسمة الرقيقة لا نشعر بها .... عشنا حياتنا معاً في هدوء ، وكنت أتسلل في الليل لغرفة أبي مرتين أو ثلاثة لأقّلبه في فراشه وأعود لفراشي وأصحو لهذا الغرض بدون منبه .
فجأة رحلت إلي رحاب الله أم زوجتي وقد حزنت كثيراً عليها وبكيتها كأنما عشت معها طوال عمري !
ماتت تلك السيدة الفاضلة وهي تدعو لي بالستر في الدنيا والآخرة ، وتوصيني خيراً بابنتها اليتيمة ، واستجاب الله لدعاء الأم وأنجبت زوجتي في العام الرابع من زواجنا طفلة جميلة رائعة أسميناها آية ، وفوجئت بإحدى الجامعات الأوربية تمنحني منحة دراسية لدراسة الدكتوراه بناء علي توصية خبير أجنبي يعمل معنا بالمشروع وكان أستاذاً بها .
استشرت أبي كعادتي في كل أمور حياتي فشجعني علي السفر ، لكنني لم اطمئن إلي صدق حماسه وخُيل لي أنه ليس سعيداً !
بدأ إجراءات السفر وفي كل مرة أعيد علي أبي السؤال ، فيقسم لي أنه راضِ عن سفري وأن من حقي أن أحصل علي فرصة لن تتكرر في حياتي مرة أخرى !
استمررت في الإجراءات ولم يتبق سوى الاستقالة من المشروع ووصول تذاكر السفر ، وذات يوم أبلغتني زوجتي أنها دخلت لتقدم لأبي عصير البرتقال وتساعده علي تناوله كعادتها بعد الظهر ، فوجدته مغمض العينين ودموعه تسيل من تحت جفونه وأنه ارتبك حين شعر بها وتعلل بحرارة الجو !!
والله يا صاحبي أمضيت يومها الليل كله شارداً ، أفكر فيما رأته زوجتي سميرة وأتخيل صورة أبي وهو يبكي وحاله حين أتركه
وحيداً وأسافر !
استمر هذا العناء في التفكير ثلاثة أسابيع كاملة ، وفجأة هبطت عليّ السكينة من السماء وقررت عدم السفر وانزاح عن صدري حجر ثقيل ، وأبلغت الجميع بقراري النهائي الذي لا رجعة فيه بعدم السفر ، وبعد ذلك الموضوع بشهور أنجبت زوجتي الحبيبة طفلاً جميلاً أسميته منصور تيمناً باسم أبي .
وفوجئت بعد مولده بأيام بتحويل عقدي المؤقت مع المشروع إلي عقد دائم مع الهيئة الأجنبية التي تتولاه ، وكانت تلك معجزة حقيقية تستعصي علي الخيال ، لكنها إرادة الله ، وعند انتهاء عقد زوجتي مع المشروع نصحتها بالتفرغ لتربية أولادنا فرحبت بذلك .
إلي هنا وكأنما اطمأن أبي إلي استقرار حياتي ، فودعنا بهدوء ولحق بجوار ربه راضياً عني ، وخلا البيت من وجهه الوضاء وصوته الهادئ ، وتوالت عليّ منح السماء وجوائزها .
اعترف لك يا صاحبي إني استشعرت شعوراً مؤكداً أنني صادفت من التوفيق في حياتي العملية ما لا أراني أهلاً له ولا أجد تفسيراً لذلك سوى أنه بفضل رضي ربي عني لرعايتي لأبي وأمي يرحمهم الله ، وقد عوضني المولي عز وجل عن حلم الحصول علي الدكتوراه بالخارج بأن حققت في عملي ما لم يكن يرشحني له ما هو أكثر من الدكتوراه ، وترقيت في عملي ترقيات كبري في زمن قياسي بفضل دعاء الوالدين !
تلك كانت قصة صاحبي ناصر منصور ، وهو بالفعل منصور بفضل الله لرعايته لوالديه في عجزهم وشيخوختهم ، لقد قدم ناصر لحياته ما يؤهله لجميل الظن بالله ويطمعه في جوائزه ونسائم رحمته .
تأمل معي حكمة الله البالغة في قوله تعالي : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ) .. فقد كوفئ صاحبي ناصر عن كل اختبار
اختار فيه ما يكرهه لنفسه ، مؤثراً أداء واجبه النبيل تجاه أبيه وأمه علي رغباته وصالحه الشخصي ، وها هو قد نجح لأول مرة بتفوق في البكالوريوس حين آثر رعاية أبيه علي انطلاقه كشاب لا تثقله رعاية أب مقعد مريض ، ورفض مرة ثانية مصلحته الشخصية وحلمه قي الحصول علي الدكتوراه والسفر للخارج ، وفضّل أن يجاهد مع أبيه ، يرعى شئونه ؛ ففاز برضي النفس والضمير قبل رضي والديه ودعاؤهم !
لقد كان جميل ظنه بالله هو مرشده إلي مرفأ الأمان ولم يخيب الله له رجاء !!
ذلك هو النموذج الجميل الراقي الذي يجب أن يحتذي به الشباب المسلم ، ويا ليت قومي يعلمون ويتعاملون بذكاء مع تكنولوجيا الإنترنت المدمرة وعباقرة القنوات الفضائية الجهلاء أشباه الرجال ، يا ليت قومي يعملون قبل فوات الأوان !!!
~~~~~~~~~~~
أحمد عبد اللطيف النجار
ومفكر مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق