قصة قصيرة
$$$$$$$$$$
صوت أمي !
بقلم / أحمد عبد اللطيف النجار
أديب ومفكر مصري
ليست مجرد قصة
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
$$$$$$$$$$
صوت أمي !
بقلم / أحمد عبد اللطيف النجار
أديب ومفكر مصري
ليست مجرد قصة
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
آه من عذاب الضمير
وأصحاب الضمائر الحية الذين تحاسبهم ضمائرهم على أفعالهم ؛ وتردهم رداً عن اقتراف
الآثام والخطايا ؛ وعلى النقيض منهم هناك أصحاب الضمائر الميتة الذين لا يبالون
بما يفعلون ، بل يزدادون في غيّهم وظلمهم لأنفسهم قبل أن يظلموا عباد الله .
قد تضع الظروف أي إنسان في مواقف محرجة يحتار فيها كيف يرضي ضميره ويرضي ربه في الوقت نفسه ؛ فهو يكون بين نارين واختيارين أحلاهما مُر !
صاحبي أيمن جاءني ذات ليلة حائراً ؛ نادماً ؛ حزيناً يقول : عمري اليوم تخطى التاسعة والثلاثين ؛ عشت بين أبوين فاضلين وأشقاء متحابين غرست فيهم ست الحبايب كل ما هو جميل من قيم فاضلة وأخلاق حميدة وإنكار للذات ، ولقد تزوجت وتزوج إخوتي وسافر بعضهم للعمل بالخارج وعشت أنا في مدينة الإسماعيلية وأنجبت وأقمت في منطقة نائية بعيدة عن بيت أبي بحوالي ثلاثين كيلو متر ... منذ فترة نهضت من نومي مذعوراً على زنين الهاتف وصوت أبي يدعوني في فزع للحضور إلى البيت فوراً لأن أمي مريضة وتحتضر ، فارتديت ملابسي بسرعة وذهبت إلي البيت وأنا لا أشعر بمن حولي ، وما أن رأتني أمي حتى هتفت قائلة : ( الحمد لله أن رأيتك قبل أن أودع الحياة ) ثم راحت توصيني بأن أحب إخوتي والناس وألا أمنع مساعدتي عن أحد يحتاج إليها أبداً ، ساعتها يا صاحبي انهمرت دموعي وراحت أمي في غيبوبة استمرت إلى اليوم التالي ، ثم أكرمها الله وأفاقت منها وتحسنت قليلاًَ ، واستمر التحسن فاطمأننت عليها وسافرت للقاهرة لاستقبل شقيقاتي القادمات من الخارج للاطمئنان علي أمنا الحبيبة ؛ ومن المطار اتصلنا بأمنا فعلمنا من أبي أنها قد عاودتها الأزمة وستُنقل للمستشفى ؛ فأسرعنا في عودتنا حتى وصلنا إلى الإسماعيلية ووجدنا القلب الحنون قد أفاقت من غيبوبتها وفرحنا كثيراً ؛ لكن الفرحة لم تدم فقد
عاودتها الأزمة مرة أخرى ، ونقلناها إلى المستشفى وحضر شقيقي مدحت المقيم في الخارج لرؤية أمه ؛ وطالت غيبوبتها ثلاثة أيام كاملة ، ثم فوجئنا بأمنا الحبيبة الغالية وقد أفاقت من غيبوبتها على ذكر الله بصفة مستمرة وبالساعات الطويلة ، وحمدت الله أنها رأتنا جميعاً حولها ؛ وطمأننا الطبيب أنها قد اجتازت مرحلة الخطر وسوف تخرج بعد يومان ... خلال تلك الفترة كنت لا أفارقها ؛ فأذهب للمستشفى في السابعة صباحاً ولا أغادره قبل الثانية صباح اليوم التالي ، ثم أجوب المدينة طوال النهار بحثاً عن علاج أمي واشتري لها يومياً 4 حقن بمبلغ كبير ... مرت الأيام عصيبة وأصيبت أمي الحبيبة بنكسة خطيرة ونزفت من فمها طويلاً ؛ وحذرنا الطبيب من شربها الماء لأن فيه هلاكاً مؤكداً ؛ وبعد يومان أفاقت من غيبوبتها ونظرت إلىّ بحنان قائلة : عطشانة يا ولدي ؛ أعطني ولو نقطة ماء ، فوجدت نفسي حائراً بين نارين ... إن سقيتها عرضتها للأذى وإن رفضت قد ترحل أمي الحبيبة عن الحياة وهى عطشى فلا أغفر لنفسي أبداً ؛ ثم حزمت أمري بعد تردد واعتذرت لها بأن الماء يضرها ورجوتها ألا تغضب ؛ فلم تجادلني ، لكنها بدت حزينة حزناً هادئاً غريباً ، ثم حضر الطبيب في اليوم التالي وأبلغته أنها طلبت أن تشرب ماء فأفهمني بأنه يمكنني أن أبلل قطعة من القطن بالماء واعتصر بعض النقط في فمها إذا طلبت أن تشرب ، فهممت أن أفعل فإذا بها تنزف مرة أخرى من فمها بشدة ثم تروح في غيبوبة لا تفيق منها إلا وقد خرج السر الإلهي من صدرها وغابت عنا للأبد .. رحمها الله وجزاها عنا خير الجزاء .
مشكلتي الكبرى التي تؤرقني ليل نهار هي عذاب الضمير ، فضميري يؤرقني ولا أستطيع النوم إلا قليلاً ؛ وكلما تذكرت أنني حرمتها من الماء الذي كان آخر رغباتها ؛ وتذكرت كم كانت نبعاً للحنان والعطاء لنا جميعاً طوال رحلة العطاء ؛ طار النوم من عيني وأشعر باكتئاب شديد ومرارة لاذعة في حلقي وحالتي تسوء يوماً بعد يوم ، وينعكس ذلك على زوجتي وأولادي وكل حياتي ولا أدري ماذا أفعل ؟!
تلك لحظات صعبة عشناها مع صاحبي أيمن ، إمها لحظة الاختيار الصعب بين أمرين أحلاهما مُر ؛ لكن كان على أيمن أن يختار الأمر الأول وهو حرمان أمه الحبيبة من قطرة الماء وهي في آخر لحظات حياتها خوفاً عليها وامتثالاً لأوامر الطبيب ؛ ولأن صاحبي أيمن من أصحاب الضمائر الحية فإن ضميره يؤرقه ويشعر بأنه كان مقصر في حق أمه الراحلة !!
هوّن عليك يا صديقي ؛ فذلك هو قضاء الله الذي لا راد لقضائه ، أنت لم تقصد إطلاقاً تعذيب أمك ولا حرمانها من الماء ، وتأكد أنها تفهم ذلك وتعلمه جيداً ولن تغضب عليك في حياتها الأخرى ، فكيف تتوقع من القلب الحنون الطيب أن يغضب على أي إنسان ؛ فما بالك إذا كان فلذة كبده .. هوّن عليك يا صاحبي وأكثر من ذكر الله والاستغفار وقراءة القرآن بتدبر وخشوع ؛ ولا بأس بأن تخرج الصدقات للمساكين وملاجئ الأيتام على روح والدتك ؛ فملاجئ الأيتام ما أكثرها في وطننا العربي ، والمساكين من الشعوب المقهورة البائسة لا حصر لهم ؛ مساعدتهم مادياً أجدى وأنفع لهم من بناء المساجد ، فالبؤساء غايتهم أماكن الصلات والعون لا أماكن الصلاة ، وما أكثر الماء في مصر ( هبة النيل) ولكن شعبها مسكين مقهور ضاعت وسُرقت منه حقوقه لأكثر من ستين عاماً .. وقاك الله من كل سوء وهداك إلي سواء السبيل .
قد تضع الظروف أي إنسان في مواقف محرجة يحتار فيها كيف يرضي ضميره ويرضي ربه في الوقت نفسه ؛ فهو يكون بين نارين واختيارين أحلاهما مُر !
صاحبي أيمن جاءني ذات ليلة حائراً ؛ نادماً ؛ حزيناً يقول : عمري اليوم تخطى التاسعة والثلاثين ؛ عشت بين أبوين فاضلين وأشقاء متحابين غرست فيهم ست الحبايب كل ما هو جميل من قيم فاضلة وأخلاق حميدة وإنكار للذات ، ولقد تزوجت وتزوج إخوتي وسافر بعضهم للعمل بالخارج وعشت أنا في مدينة الإسماعيلية وأنجبت وأقمت في منطقة نائية بعيدة عن بيت أبي بحوالي ثلاثين كيلو متر ... منذ فترة نهضت من نومي مذعوراً على زنين الهاتف وصوت أبي يدعوني في فزع للحضور إلى البيت فوراً لأن أمي مريضة وتحتضر ، فارتديت ملابسي بسرعة وذهبت إلي البيت وأنا لا أشعر بمن حولي ، وما أن رأتني أمي حتى هتفت قائلة : ( الحمد لله أن رأيتك قبل أن أودع الحياة ) ثم راحت توصيني بأن أحب إخوتي والناس وألا أمنع مساعدتي عن أحد يحتاج إليها أبداً ، ساعتها يا صاحبي انهمرت دموعي وراحت أمي في غيبوبة استمرت إلى اليوم التالي ، ثم أكرمها الله وأفاقت منها وتحسنت قليلاًَ ، واستمر التحسن فاطمأننت عليها وسافرت للقاهرة لاستقبل شقيقاتي القادمات من الخارج للاطمئنان علي أمنا الحبيبة ؛ ومن المطار اتصلنا بأمنا فعلمنا من أبي أنها قد عاودتها الأزمة وستُنقل للمستشفى ؛ فأسرعنا في عودتنا حتى وصلنا إلى الإسماعيلية ووجدنا القلب الحنون قد أفاقت من غيبوبتها وفرحنا كثيراً ؛ لكن الفرحة لم تدم فقد
عاودتها الأزمة مرة أخرى ، ونقلناها إلى المستشفى وحضر شقيقي مدحت المقيم في الخارج لرؤية أمه ؛ وطالت غيبوبتها ثلاثة أيام كاملة ، ثم فوجئنا بأمنا الحبيبة الغالية وقد أفاقت من غيبوبتها على ذكر الله بصفة مستمرة وبالساعات الطويلة ، وحمدت الله أنها رأتنا جميعاً حولها ؛ وطمأننا الطبيب أنها قد اجتازت مرحلة الخطر وسوف تخرج بعد يومان ... خلال تلك الفترة كنت لا أفارقها ؛ فأذهب للمستشفى في السابعة صباحاً ولا أغادره قبل الثانية صباح اليوم التالي ، ثم أجوب المدينة طوال النهار بحثاً عن علاج أمي واشتري لها يومياً 4 حقن بمبلغ كبير ... مرت الأيام عصيبة وأصيبت أمي الحبيبة بنكسة خطيرة ونزفت من فمها طويلاً ؛ وحذرنا الطبيب من شربها الماء لأن فيه هلاكاً مؤكداً ؛ وبعد يومان أفاقت من غيبوبتها ونظرت إلىّ بحنان قائلة : عطشانة يا ولدي ؛ أعطني ولو نقطة ماء ، فوجدت نفسي حائراً بين نارين ... إن سقيتها عرضتها للأذى وإن رفضت قد ترحل أمي الحبيبة عن الحياة وهى عطشى فلا أغفر لنفسي أبداً ؛ ثم حزمت أمري بعد تردد واعتذرت لها بأن الماء يضرها ورجوتها ألا تغضب ؛ فلم تجادلني ، لكنها بدت حزينة حزناً هادئاً غريباً ، ثم حضر الطبيب في اليوم التالي وأبلغته أنها طلبت أن تشرب ماء فأفهمني بأنه يمكنني أن أبلل قطعة من القطن بالماء واعتصر بعض النقط في فمها إذا طلبت أن تشرب ، فهممت أن أفعل فإذا بها تنزف مرة أخرى من فمها بشدة ثم تروح في غيبوبة لا تفيق منها إلا وقد خرج السر الإلهي من صدرها وغابت عنا للأبد .. رحمها الله وجزاها عنا خير الجزاء .
مشكلتي الكبرى التي تؤرقني ليل نهار هي عذاب الضمير ، فضميري يؤرقني ولا أستطيع النوم إلا قليلاً ؛ وكلما تذكرت أنني حرمتها من الماء الذي كان آخر رغباتها ؛ وتذكرت كم كانت نبعاً للحنان والعطاء لنا جميعاً طوال رحلة العطاء ؛ طار النوم من عيني وأشعر باكتئاب شديد ومرارة لاذعة في حلقي وحالتي تسوء يوماً بعد يوم ، وينعكس ذلك على زوجتي وأولادي وكل حياتي ولا أدري ماذا أفعل ؟!
تلك لحظات صعبة عشناها مع صاحبي أيمن ، إمها لحظة الاختيار الصعب بين أمرين أحلاهما مُر ؛ لكن كان على أيمن أن يختار الأمر الأول وهو حرمان أمه الحبيبة من قطرة الماء وهي في آخر لحظات حياتها خوفاً عليها وامتثالاً لأوامر الطبيب ؛ ولأن صاحبي أيمن من أصحاب الضمائر الحية فإن ضميره يؤرقه ويشعر بأنه كان مقصر في حق أمه الراحلة !!
هوّن عليك يا صديقي ؛ فذلك هو قضاء الله الذي لا راد لقضائه ، أنت لم تقصد إطلاقاً تعذيب أمك ولا حرمانها من الماء ، وتأكد أنها تفهم ذلك وتعلمه جيداً ولن تغضب عليك في حياتها الأخرى ، فكيف تتوقع من القلب الحنون الطيب أن يغضب على أي إنسان ؛ فما بالك إذا كان فلذة كبده .. هوّن عليك يا صاحبي وأكثر من ذكر الله والاستغفار وقراءة القرآن بتدبر وخشوع ؛ ولا بأس بأن تخرج الصدقات للمساكين وملاجئ الأيتام على روح والدتك ؛ فملاجئ الأيتام ما أكثرها في وطننا العربي ، والمساكين من الشعوب المقهورة البائسة لا حصر لهم ؛ مساعدتهم مادياً أجدى وأنفع لهم من بناء المساجد ، فالبؤساء غايتهم أماكن الصلات والعون لا أماكن الصلاة ، وما أكثر الماء في مصر ( هبة النيل) ولكن شعبها مسكين مقهور ضاعت وسُرقت منه حقوقه لأكثر من ستين عاماً .. وقاك الله من كل سوء وهداك إلي سواء السبيل .
أحمد عبد اللطيف
النجار / أديب مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق